مسار الصياد المولود من الظلال - ولادة الظل - يمكنك مناداتي بالقيصر
تصلّب جسد رافين هارت كول فجأة، عيناه اتسعتا بدهشة وخوف، فقد كان جنديًا اعتاد مواجهة الموت… لكن هذا، ما يحدث الآن، لم يكن شيئًا يمكن قتاله.
ارتجف صوته وهو يتحدث:
“م… من أنت؟ و كيف دخلت؟”
لم تتحرك الشخصية الغامضة، ظلت جالسة على الكرسي، غير متأثرة باضطراب كول، وقالت بنبرة هادئة، نبيلة:
“يمكنك مناداتي بالقيصر.”
ساد صمت لوهلة، قبل أن يكسر القيصر السكون مجددًا، بصوت أشبه بجرس بعيد يرن في عقل كول:
“لا تهتم بكيف دخلت… بل فكّر لماذا أنا هنا.”
كان قلب كول يخفق بقوة، يحاول أن يتماسك. سأل بصوت مبحوح:
“هل أنت… من المعبد؟ أم من أحد طوائف الصيادين؟”
ضحكة قصيرة، أشبه بنفخة ساخرة، خرجت من الظلال:
“المعبد؟ لا. والطوائف؟ هم مجرد أطفال يتصارعون على فتات. أنا من مكان لا تصل إليه أعينهم… ولا تحكمه قوانينهم.”
صمت القيصر قليلًا، ثم أردف بصوت أكثر انخفاضًا، كأنه يسري مباشرة في صدر كول:
“سمعت صرختك، يا رافين… الغضب الذي ابتلعته. الندم، العجز، والخوف. كل ذلك… جعلني أراك.”
شدّ كول قبضتيه بقوة، لكنه لم يقل شيئًا. فأكمل القيصر
:
“أتيت لأنك وصلت إلى مفترق. إن اخترت الطريق الذي سأعرضه… لن تعود كما كنت. لكنك، للمرة الأولى، لن تكون مجرد بيدق.”
كول ظل صامتًا للحظة، أنفاسه متوترة، وعيناه معلّقتان بالشخصية الغارقة في الظلال أمامه. كان جزءٌ منه يصرخ أن ما يحدث وهم… خدعة… لكن شيئًا في أعمقه، كان يهمس له أن يُنصت.
أخيرًا، تحدث بصوت خافت لكنه أجش:
“وما هو هذا الطريق؟”
أومأ القيصر بخفة، كما لو كان يتوقع السؤال منذ البداية. قال بصوت منخفض، فيه لمحة من الإغراء:
“طريقك، رافين… طريقك وحدك. لا أُقيّد. كل ما أقدّمه… هو الفرصة.”
أمال رأسه قليلاً إلى الجانب ووضع يده على رأسه، صوته أصبح أكثر دفئًا:
“أنت غاضب. وتعرف جيدًا من هم أعداؤك. لكنك بلا أساس. بلا قوة حقيقية. كل ما أقدّمه… هو الوسيلة. وستظل حراً لتقرر كيف تستخدمها.”
أخذ كول نفساً عميقاً، ثم سأل:
“إذاً… ماذا تريد مني؟”
ساد الصمت مرة أخرى، قبل أن يرفع القيصر يده باتجاهه، وقال بهدوء:
“الانضمام إلي.”
رمش كول ببطء، التعبير في عينيه تحول من الخوف إلى الحذر، ومن الحذر إلى فضول ثقيل.
…تراجعت الظلال من حوله كأنها تتناغم مع كلماته، وبدأت تتقلص عن الجدران، لتكشف خلفه عن شارة غريبة تتكوّن تدريجيًا في الهواء… سيف داكن يقف منتصبًا يخترق تاجًا أسود بأسنان حادة، كأن التاج وُلد من الظلام نفسه. تحته، تمتد جذور سوداء تشبه خيوط الدخان، وحول الشعار، دائرة باهتة تنبض.
تابع القيصر، صوته يتغلغل كالماء البارد في صدر كول:
“أنا قائد مجلس التيجان السبع. منظمة تعمل بالخفاء. نحن قوة تسير وفق توازن بسيط: المهمة مقابل المكافأة.”
ثم أضاف بصوت أخفض:
“نحن لا نمنح شيئًا مجانًا، رافين. كل ما تريده… يمكن أن تحصل عليه، ولكن بثمن. المهمة تُنفذ، والمقابل يُسلَّم. بسيط، واضح، وعادل.”
حبس كول أنفاسه، ثم سأل بصوت خافت:
“وماذا لو رفضت؟”
ابتسم القيصر، ابتسامة لم تُرَ، لكن وقعها سُمِع:
“لن يحدث شيء. لا تهديدات، لا عقوبات. ستعود ليلتك كما كانت، تغرق في أحلام اليقظة عن انتقام مستحيل… وتمضي أيامك ببطء نحو لا شيء. نحن لا نُجبر. فقط نمنح… لمن يملك الشجاعة لطلب القوة، والجرأة على دفع الثمن.”
صمت للحظة، ثم مد يده مجددًا، كأن الظلال نفسها امتدت نحوه:
“اختر، رافين. إما أن تبقى داخل قفص شرفك المنهك… أو ترتدي التاج، وتصبح شيئًا لم تحلم به من قبل.”
لثوانٍ بدت كأنها دهر، لم ينبس رافين هارت كول بكلمة. ثم ببطء، تقدم خطوة نحو اليد الممدودة… ثم أخرى.
مد يده، ولمس الظلال.
في لحظة، انتفض جسده كأن موجة باردة اخترقته، وظهرت فجأة علامة سوداء على كتفه الأيسر، تأخذ شكل تاجٍ شديد السواد تحته سيف مائل.
ثم ظهر تاج أسود بين ظلال القبو. ليس تاج حقيقي. بل رمز يتوهج في الهواء خلفه. كان العالم يعترف بتحوله.
قال القيصر بصوت خافت، يحمل شيئًا من التقدير:
“من هذه اللحظة و صاعدًا … اسمك الرمزي التاج الأسود. و لقبك سوف يكون: رفيق السيف.”
ثم أضاف بعد لحظة صمت:
“مرحبًا بك في مجلس التيجان السبع… رافين هارت كول.”
انحنى كول ببطء، واضعًا قبضته على صدره كتحية لجلال مجهول، وقال بصوت خافت لكنه ثابت يحمل الاحترام:
“شكرًا لك… على منحي الاسم، أيها القيصر.”
لم يرد القيصر فورًا، بل خيّم صمت خفيف، ثم قال بصوت منخفض:
” أرجو ألا يخيب ظني بك، ايها التاج الأسود.”
ثم وقف القيصر من كرسيه دون أن تُصدر خطواته صوتًا، وكأن الأرض نفسها امتصت أثره. قال بنبرة ناعمة:
“سأرسل لك مهمتك الأولى قريبًا. كن مستعدًا، أيها التاج الأسود.”
وقبل أن يتمكن كول من الرد، بدأ الظلام يبتلع الشخصية شيئًا فشيئًا، كأن القبو نفسه رفض أن يحتفظ بوجوده أكثر، ومع اختفاء القيصر، انطفأت الشارة في الهواء، وبدأ الضوء الطبيعي يعود ببطء إلى القبو… وكأن شيئًا لم يكن.
ظل كول واقفًا في مكانه، يتنفس ببطء، ونظره ثابت نحو حيث كان القيصر.
وهمس بعد برهة، كأنه يُخاطب نفسه:
“رفيق السيف… التاج الأسود…”
رفع يده ليلمس العلامة على كتفه.
ضحكة قصيرة، جافة، خرجت من فمه. لم يكن فيها سعادة، بل مزيج من الدهشة، الرهبة… وشيء آخر، لم يكن يعرفه تمامًا بعد.
جلس على الأرض ببطء، ثم أسند ظهره إلى الجدار البارد، وحدق في السقف بصمت.
ظل رافين هارت كول جالسًا، أنفاسه تتباطأ تدريجيًا. لكن قلبه… لم يهدأ. كل شيء بدا حقيقيًا أكثر من اللازم، ومع ذلك… لم يملك إلا الشك.
“القيصر…”
همس بالاسم، وكأن تكراره قد يمنحه إجابة. عينيه الشاحبتين تابعتا الظلال المتبقية على الجدران، تحاولان قراءة ما وراء المشهد.
من يكون؟
هل هو مجرد رجل؟ لا، مستحيل. كان هناك شيء غريب… نظراته، حضوره، حتى صوته. كأن القبو كله انحنى لوجوده. لم يكن مثل الصيادين… ولا أولئك القديسين الذين رآهم في المعارك. بل كان… شيئًا اعظم.
رفع كول يده نحو كتفه، يتلمس العلامة مجددًا. رغم دفئها، أحس بها كندبة محفورة على روحه.
“هل هو أحد كائنات عصر ما قبل الكارثة الكبرى؟ “
أو ربما… أحد أولئك الذين صاغوا العالم في الخفاء، بينما يتقاتل الصغار على الفتات؟
بدأت الأسئلة تنهال عليه بلا رحمة.
هل هو شيطان؟ إله منسي؟ أم ببساطة… رجل كسر حدود الفهم؟
رفع رأسه ببطء، نظر نحو باب القبو المغلق وكأن الإجابة ستنزل منه، ثم ابتسم ابتسامة صغيرة حزينة:
“حتى لو لم أعرف من هو… فهذا لا يغيّر شيئًا.”
وقف ببطء، جسده ما زال متصلبًا قليلًا، لكنه بدا أطول، أكثر ثباتًا.
“لقد وافقت. اخترت. ولن أعود للوراء.”
همس بصوت خافت، لكنه هذه المرة بدا كأنه وعد:
“أيًا تكن، أيها القيصر… سأعرف حقيقتك. يوماً ما.”
ثم التفت، وخرج من القبو.
_______
في أعلى هضبة “غابة العظماء”، كان كريستوفر جالسًا متربعًا في الخيمة، عيناه مغمضتان.
فجأة، فتح عينيه ببطء… ثم انفجر ضاحكًا.
ضحكة قصيرة، خافتة في البداية، ثم تصاعدت تدريجيًا حتى ترددت في أرجاء الهضبة.
“هاه… هاهاها! لقد فعلتها… لقد نجحت !”
لكن في نفس اللحظة، اصطدم بصداع هائل جعله يضع يده على رأسه وهو يئن.
“تباً… هذا… أكثر مما توقعت.”
الدم بدأ يتسلل من أنفه، قطرة فقط… ثم أخرى، حتى غطّت يده، وبلّلت فمه وهو يتنفس بصعوبة.
كانت التقنية عواقب استخدامه بشكل مفرط خطير، هو يعلم ذلك… ولكن أن يتفاعل السير كول بتلك الطريقة؟ أن يقبل الدعوة الملعونة ويتحول إلى أحد أعضاء مجلس التيجان السبع؟
لم يكن متوقعًا… لكنه كان مرضيًا.
“إذا كان بإمكاني زرع بذرة داخل شخص مثل رافين هارت كول… فالاحتمالات لا نهائية.”
ما إن أنهى كلماته، حتى ازداد الصداع حدة كأن خنجرًا من نار طُعن في عمق جمجمته. عَضَّ على شفتيه، محاولًا أن يقاوم، لكن الظلام زحف بسرعة نحو وعيه… وأُغمي عليه.
جسده ارتخى دفعة واحدة، وسقط جانبًا داخل الخيمة، أنفاسه ضحلة، والعرق يبلّل جبينه.
ثم… بدأت تظهر.
من على كتفه الأيمن، بزغ ضوء خافت كأنه يتنفس. في البداية، لم يكن سوى وميض، لكن الوميض سرعان ما اتخذ شكلاً: شارة دقيقة التفاصيل، مظلمة كالفحم، تنبض بهالة سوداء. تاج أسود يخترقه سيف مائل، تحته جذور دخانية.