مسار الصياد المولود من الظلال - ولادة الظل - معركة
استيقظ كريستوفر ببطء، كما لو كان عقله يخرج من سبات ثقيل. ارتج جسده حين تدفّق الألم مجددًا في رأسه، كأن خنجرًا لا يزال عالقًا خلف عينيه. وضع يده على صدغه وهو يئن، ثم تمتم بصوت متعب:
“تبا… الآثار الجانبية ما زالت قوية.”
ظل مستلقيًا للحظة، يتنفس ببطء، حتى خفّت الدوخة قليلًا. جلس بتثاقل، أخرج منديلًا قماشياً من حقيبته، ومسح الدم الجاف الذي التصق بأنفه وفمه. ثم نهض على مهل، وفتح جرّة الماء الصغيرة قربه وبدأ بغسل وجهه.
حين نظر إلى انعكاسه في صفيحة معدنية موضوعة جانبًا، عبس كريستوفر قليلًا. وجهه بدا شاحبًا، وعيناه شبه دامعتين من شدة الصداع. تمتم، بنبرة تحمل قدراً من السخرية:
“لقد بالغت… كثيرًا في التظاهر.”
خلع قميصه الممزق الذي التصق بجسده بفعل العرق والدم، واستعد لارتداء ملابس نظيفة… لكن عيناه توقفت فجأة عند كتفه الأيمن.
تجمّد مكانه، جف حلقه، وحدّق بصمت.
هناك… كانت الشارة.
واضحة، داكنة، نابضة بهالة شبه خافتة… تاج أسود يخترقه سيف مائل، وتحتها جذور دخانية تمتد كأنها تتنفس.
“…مستحيل.” همس كريستوفر.
قرب أصابعه ببطء من العلامة، وكأنها قد تختفي إن لمسها بعنف. لمس حوافها، لكنها لم تكن مجرد وشم… كانت محفورة بشكل روحي، كما لو أن شيئًا خارج المانا ترك أثره عليه.
“أنا… لم أضعها.”
صوته ارتجف للحظة. كان متأكدًا تمامًا: حين استخدم التقنية على كول، لم يكن هناك أي ارتباط مباشر بينه وبين الشارة. كانت مجرد رمز وُضع عليه هو… لا العكس.
أكمل كريستوفر فحص العلامة بعينيه المرتابتين، ثم تنهد بعمق وسحب نفسه بعيدًا عنها، وكأن تجاهلها سيجعلها تختفي. تمتم بسخرية مريرة:
“ماذا الآن؟… القرص يتآمر علي؟”
ضحك ضحكة صغيرة متوترة، ثم هز رأسه. كان عليه أن يركز، لا وقت للهواجس الآن.
—
بعد دقائق، جلس على صخرة صغيرة وأخرج آخر ما تبقى لديه من طعام: قطعة خبز وبعض الفواكه المجففة. تأملها لحظة، ثم عضّ الخبز بلا شهية.
“آخر وجبة…” قال بصوت منخفض، ثم نظر إلى الحقيبة الجلدية التي باتت خفيفة لدرجة مزعجة. “واخر فلس.”
لم يكن لديه خيار. العودة إلى القرية الآن مستحيلة، خصوصًا أن رحلة النزول من الهضبة ستستغرق وقتًا طويلًا، و ماله نفذ حتى لو نزل لن يستطيع شراء شي بدون مال.
فكر قليلا وقال بهدؤ:.
“سأصطاد طعامي فحسب.”
—
وقف كريستوفر على حافة الهضبة، والهواء البارد يداعب وجهه المتعب. أمامه، غابة العظماء بدت هادئة… هدوء كاذب، يعج تحت سطحه الحياة والموت.
اخذ نفس عميق و قال بصوت خافت:
“يا له من هواء نقي.”
ثم قفز برشاقة إلى الممر المنحدر، ودخل الغابة.
—
مضت عشرون دقيقة من السير الحذر بين الأشجار العالية والجذور المتشابكة. كانت الغابة ساكنة بشكل مريب، لا صوت عصافير ولا حفيف أوراق. فقط أنفاسه المتوترة ووقع خطواته على الطين.
الندى المتكاثف فوق أوراق الشجيرات لصق طرف ردائه، ومع كل خطوة، كان ينظر حوله بعينين حذره، يبحث عن أثر للحيوانات. الوقت لا يرحم، أن اتى الليل سوف يكون الوضع خطر.
مرّت ساعتان، وتعمّق أكثر في الغابة. الهواء أصبح أكثر كثافة، وكأن الأشجار نفسها تحبس الأنفاس. وبينما كان يعبر مجرى مائي ضيق، لمح شيئًا يتحرك بين الأغصان المقابلة.
ركع ببطء خلف جذع شجرة، وراقب.
غزال.
كان جميلًا، فروه بنيّ ذهبي، وقرونه مزينة بعقدة ملتوية أنيقة. كان يشرب من الجدول بلا قلق. قلب كريستوفر تسارع، ليس من الانبهار بل من الجوع. رفع يده ببطء، وجهز سيفه، وأخذ يتحرك بصمت.
لكنه توقف فجأة.
الغزال رفع رأسه، تجمّد، ثم… نظر إلى الأعلى.
غصن سميك انفجر فوقه، وسقط منه كائن كاد يُظلم الضوء من حجمه. كان كتلة عضلية مغطاة بفراء أسود مرقّط، عيناه حمراوان، وأنيابه بارزة حتى فمه المغلق. الغزال لم يُفلِت سوى صرخة واحدة قبل أن تهوي عليه كفّ ضخمة وتمزقه نصفين.
وحش شيطاني من الرتبة الأولى.
كريستوفر شهق بصمت. كان الوحش يقف فوق الفريسة الآن، ينهشها، وصوته كخرير صخور تتكسر. لكن… بعد ثوانٍ، توقف، ورفع رأسه. أنفه ارتجف، وعيناه الحمراوان التفتتا ببطء إلى حيث يختبئ كريستوفر.
“تبا…” تمتم، وهو ينهض ببطء.
الوحش زأر. الأرض اهتزت، واندفع نحوه كأن الريح تدفعه.
كريستوفر قفز إلى الخلف، بالكاد تفادى الكف الأولى. اصطدم بجذع شجرة وسقط على الأرض، لكن جسده تحرك بتلقائية. رمى ترابًا في عين الوحش وقفز إلى اليسار.
الوحش زمجر، عينيه تلمعان بالغضب.
“هذا ليس قتالًا يمكنني الفوز به.” فكر وهو يتراجع.
لكنه لم يهرب. لم يكن بوسعه ذلك. إن استدار، سيكون ظهره مكشوفًا.
فجأة، توقف. التفت، وحدّق في جذع شجرة مكسور على يساره… ثم نظر إلى الوحش.
“ربما…”
ركض نحوه مجددًا، هذه المرة وهو يصرخ. الوحش اندفع أيضًا.
قبل أن يصطدم به، انزلق كريستوفر على الأرض بزاوية غريبة، واستغل انحناء الوحش لينغرز سيفه في ساقه اليمنى. الدم تفجّر، لكن الوحش لم يتوقف، بل ضربه بكفه الأخرى.
كريستوفر طار في الهواء واصطدم بجذع، صرخ بألم حاد، شعر بعظام صدره تنكسر. سقط أرضًا، يتنفس بصعوبة، الدم يملأ فمه.
لكن عيناه…
عيناه لم تفقدا بريقه.
الوحش تقدم ببطء، يعرج قليلًا. كريستوفر تراجع على الأرض، حتى لمس شيئًا بيده… صخرة كبيرة، نصفها مكسور.
“تحتاج لإلهاء.”
أخذ نفسًا عميقًا، ثم قذف الصخرة باتجاه وجه الوحش. ارتد الوحش إلى الخلف لحظة. في تلك اللحظة، تحرك كريستوفر.
قفز إلى يسار الوحش، وركض حوله نحو جذع الشجرة المكسور الذي لاحظه سابقًا. الجذع كان مائلًا، وعليه فرع حاد كالرماح.
تسلّق كريستوفر الجذع بسرعة رغم الألم، وعندما قفز الوحش نحوه مجددًا…
انزلق كريستوفر من فوق الجذع عمداً.
الوحش لم يتوقعها.
وزنه الضخم قفز مباشرة نحو كريستوفر، لكن الأخير كان قد غاص بالفعل إلى الأرض أسفل الجذع…
فانغرز الفرع الحاد مباشرة في عنق الوحش.
صوت اختناق و صراخه اليأس سُمع، ثم سكون.
كريستوفر كان تحت جسد الوحش شبه الميت، يتنفس بصعوبة، والدماء تغمره.
“لم… أصدق أنه نجح.” همس.
لكنه لم ينهض فورًا. عينيه كانتا تحدقان في الوحش.
بإثارة.
لم يشعر بهذا الاندفاع، بهذا التركيز، بهذه الحياة… منذ أن كان يحفر في مقبرة ملك مفقود في عالمه القديم.
“هل… أنا مشتاق للشعور بالخطر؟”
فكرة خطيرة، لكنها لم تفارقه.
نهض كريستوفر من تحت جسد الوحش بصعوبة، يتنفس بصدر متألم، ثم نظر إلى الجثة العملاقة أمامه، عينه تلمع بالحياة.
ربّت على الجسد المغطى بالدم وقال، وهو يبتسم رغم ألمه:
“هاهاها… لقد اصبحت غدائي ايها الاحمق.”
ضحك ضحكة قصيرة، نصفها سخرية ونصفها نشوة. لكن…
بووووم!
اهتزت الأرض تحت قدميه، ودوّى صوت انفجار عميق من الغرب، جعله يتجمد في مكانه.
استدار ببطء، نظراته مشدودة نحو مصدر الصوت، ليس بعيدًا، ربما مئات الأمتار. ضيق عينه و تمتم كريستوفر بصوت منخفض:
“ما هذا الآن؟”
تحرك بخفة، متجاوزًا الأشجار الكثيفة، واحتفظ بمسافة آمنة، حتى وصل إلى حافة منحدر صغير يطل على ساحة المعركة.
كانت هناك… فرقة من المعبد المقدس، أحد عشر مقاتلًا، دروعهم البيضاء تلمع رغم اتساخها، شعارات المعبد محفورة بوضوح على صدورهم. سيوف، رماح، صراخ أوامر… كل شيء بدا منظمًا.
لكن خصمهم…
فتاة.
وحيدة.
ذات جمال طاغٍ، شعر أسود طويل ينسدل على ظهرها كستار الليل، عيناها مغطاتان بشريط أبيض كالثلج، كأنها عمياء… ووجهها؟ كالدمية، جامد الملامح، هادئ كأنه غير معني بكل من حوله.
كانت ترتدي، قماشه داكن، أطرافه مزينة بخيوط وأبازيم معدنية. عباءة طويلة سوداء ممزقة، وقبعة.
“جميلة…” تمتم كريستوفر دون وعي، وهو يفرك ذقنه الخالي من الشعر.
تجهم قليلاً، ثم نظر إلى صدرها الفاتن للحظة… قبل أن يهز رأسه فجأة بقوة:
“ركز”
همس لنفسه ساخرًا، ثم تراجع قليلًا، و راقب بتركيز.
المعركة كانت على وشك التحوّل.
صرخة.
اندفاع.
ثم…
“حرق السماء الأولى!” صاحت الفتاة، بصوت منخفض لكنه قوي.
الهواء اهتز، والمانا بسيفها اشتعلت كأنها زئير تنين.
سيفها تغيّر. لونه أصبح أحمر قاتم، وشرارات نارية بدأت تتطاير منه، كأن نيزكًا صغيرًا استقر بين يديها.
بضربة واحدة… فوووووش!
أحرق أحد رجال المعبد بالكامل. صرخ، لكنه لم يكد ينهيها حتى سقط جثة متفحمة. صراخٌ آخر، وارتباك في الصفوف.
الفتاة واصلت تقدمها كأنها ظل الموت. ضربة أخرى، وقسمت رجلاً نصفين، النيران تلتهم جسده وهو ينهار.
صرخ قائد الفرقة وقف بالخلف، وجهه مغطى بالغبار و العرق:
“انتبهوا! إنها صيادة من الرتبة الأولى! عنصرها… النار! لقد أُنهكت، لكنها لا تزال خطيرة! لقد كنا نطاردها منذ أيام اكملوا استنزافها و سوف تسقط ما هي الا وحش جريح!”
ما إن صرخ بصوته حتى بدا كأن شرارة انطلقت في صدور جنوده. تعززت معنوياتهم فجأة، وبدأوا يصرخون معًا بحماسة، يضربون دروعهم برماحهم كأنهم في موكب نصر.
“هاها! تعبت أخيرًا أيتها العمياء!”
“سنُرشدك لطريق النور، بالقوة!”
“سوف نطهرك بسرعة من دون ألم فقط استسلمي!”
أما كريستوفر… فبقي صامتًا خلف جذع الشجرة، عينيه لا ترمش، وفمه نصف مفتوح بدهشة.
“صيّادة؟” تمتم، وقد تجمّد تفكيره للحظة.
أدار نظره سريعًا إلى أطراف الغابة من حوله، وكأن المعبد قد زرع عيونه في كل زاوية. صيّاد… في منطقة خاضعة لنفوذ المعبد؟ هذا بحد ذاته أمر لا يُصدق.
ثم… تذكر عقله فجأة كلام القديسة إيلين..
نظر كريستوفر إلى الساحة مجددًا، حيث تتطاير الشرارات مع كل ضربة.
“إذن… هذه هي؟”
لمس ذقنه الخالية من الشعر، وعيناه تتوهجان باهتمام.
“يبدو أن الأمور أكثر إثارة مما ظننت…” تمتم بصوت خافت، قبل أن تظهر ابتسامة صغيرة على طرف شفتيه.
كان يعرف جيدًا أن المعبد لا يُطارد أحدًا بهذه الشراسة إلا إن كان وراءه شيء… شيء مهم. لا يمكن أن تكون مجرد صيادة.
“لن أصدق حتى لو أقسموا أمامي… لا أحد يُطارد شخصًا بكل هذه الجدية لمجرد أنه ‘صياد.”
بدأت الأفكار تتسابق في رأسه.
“هل تحمل سرًا؟… كنزً؟”
ابتلع ريقه، وتراجع قليلًا وهو يضع يده خلف ظهره بحذر، ثم واصل مراقبة المعركة باهتمام بالغ.