مسار الصياد المولود من الظلال - ولادة الظل - طموح
ضحك كريستوفر مع لوكس، ارتفعت أصواتهما قليلًا قبل أن تخفت شيئًا فشيئًا، وتترك خلفها صدى هادئًا في جدران الكهف الصخرية.
ساد صمت خفيف بين الاثنين، لم يكن صمتًا محرجًا بل أقرب إلى نوع من السكينة بعد نوبة من الضحك. كان صوت احتكاك صفحات الكتاب هو الشيء الوحيد الذي يقطع الهدوء، وميلينا ما تزال غارقة في القراءة.
ثم، بصوت منخفض ومختلف عن نبرته المعتادة، قال لوكس:
“إذاً، كريستوفر…”
كانت هذه أول مرة يناديه باسمه، من دون ألقاب أو سخرية.
“ما الذي تطمح له؟”
نظر كريستوفر إليه، للحظة شعر بأن الزمن تباطأ، ثم أجاب بهدوء:
“طموحي؟”
سحب نفسًا خفيفًا، وابتسم ابتسامة صغيرة.
“أن أبقى حيًا.”
رفع لوكس حاجبًا، لكن كريستوفر واصل وهو ينظر نحو اللهب:
“”لكنني لا أريد فقط أن أختبئ. أريد أن أتعلم، أن أفهم هذا العالم. أن أكتشف أسراره، وأستمتع بما يمكن أن يقدمه… حتى وإن كان ذلك محفوفًا بالخطر.”
ثم نظر إلى لهب النار المتراقص، وعيناه الحمراوان تتوهجان تحت الضوء الخافت.
“إن كان لا مفر من أن أعيش هنا، فليكن ذلك على طريقتي.”
——
بعد عدة ساعات من الاكل و الشرب مع لوكس، جلس كريستوفر القرفصاء على الأرض، وأسند ظهره إلى الجدار الصخري. أغمض عينيه ببطء، وبدأ يتأمل.
تهدئة العقل.
تنظيم التنفس.
دقات قلبه تباطأت، أنفاسه صارت أعمق وأكثر انتظامًا. خفَتَ كل شيء من حوله.
بدأ كريستوفر يستشعر المانا في محيطه. كانت ضعيفة، بالكاد ترى، لكنها لم تكن منعدمة. جزيئات صغيرة غير مرئية، تنساب إلية ببطء شديد كان يشعر بالألم كلما دخلت الية المانا الملوثة.
مرت ثوانٍ… ثم دقائق.
تذبذبت المانا في الهواء، وبدأت بالانجذاب نحوه، تتخلل جسده، تمر ببطء عبر “مصفاة” تقنية صقل السماء العظيمة. كانت العملية أشبه بضغط قطرة ماء عبر إبرة ضيقة — بطيئة، مؤلمة أحيانًا، لكنها نقية.
مرّت دقائق بطيئة، وكريستوفر غارق في سكونه، محاطًا بهالة باهتة بالكاد تُرى، تتذبذب حول جسده النحيل كوميض شاحب.
كان تنفسه منظمًا، ثابتًا، وعيناه مغلقتان بينما يشعر بالمانا تدخل إليه ببطئة. لم تكن هناك فيضانات من الطاقة، لا انفجارات ولا رؤى… فقط تيار دافئ، يشق طريقه بثبات.
كانت تقنية صقل السماء العظيمة تعمل كمرشح ناعم، تصقل كل قطرة تصل إلى البذرة، تُنقّيها، وتعيد تشكيلها بهدوء. بذرته، الكامنة في مركز صدره، اهتزت قليلاً، كأنها تستيقظ من نوم طويل.
فتح كريستوفر عينيه ببطء بعد ساعات، وداخل عينيه الحمراء لمع بريق عابر. شعر بقدمه تنمل قليلاً من الجلوس.
تنهد كريستوفر: “على هذي الحالة، سوف أصل إلى المستوى المتوسط من الرتبة الأولى بعد سنتين إذا استمريت في الممارسة بهذي الطريقة…”
أكمل همسًا لنفسه، صوته يكاد لا يُسمع:
“تسك… اللعنة مع هذي الموهبة الضعيفة…”
وقف كريستوفر، شد عباءته السوداء حول جسده و ربط سيفه في خصره، ثم خرج من الكهف بخطوات هادئة. الهواء البارد ليلًا كان باردًا نسبيًا في الخارج، وكأن العالم قد عاد إلى سكونة، والشمس قد غابت تمامًا، تاركة السماء بين الظلام ونور القمر الباهت.
وقف أمام الكهف لبرهة، متأملًا في الأفق البعيد، حيث الأشجار الصامتة والجبال الشاهقة. كانت اللحظات الهادئة تتيح له دائمًا فرصة للتفكير.
“اعتقد حان الوقت لأعطاء رايفن هارت كول المهمة…” همس كريستوفر لنفسه.
ثم سمع فجأة صوتً فتاة:
“إعطاء مهمة لمن؟”
على الفور، التقط كريستوفر مقبض سيفه بسرعة، و التفت متفاجئًا.
وجد أمامه فتاة جميلة، ابتسامة هادئة تعلو وجهها و كانت عيناها مربوطه بشريط أبيض، ترتدي معطفًا أسود طويلًا ينسدل على ظهرها. كان قميصها الأبيض يتناغم مع الحزام النحاسي الذي يلتف حول خصرها النحيل. كانت… ميلينا.
ابتسم كريستوفر بخفة عندما رأى وجه ميلينا، ثم خفَّ توتره شيئًا فشيئًا وأبعد يده عن مقبض سيفه. كان واقفة بثبات.
“ظننتكِ نائمة،” قال بصوت منخفض، وهو يعيد يده إلى جانبه.
ردّت ميلينا بنبرة مرحة لكنها هادئة:
“لم أستطع النوم. لذلك تبعتك و سمعتك… تهمس وكأنك تخطط لاغتيال أحدهم.”
ضحك كريستوفر بخفة، ثم نظر إلى الأفق مجددًا.
“أحيانًا، لا بد من تحريك قطع الشطرنج… حتى لو لم يكن الوقت مثاليًا.”
اقتربت ميلينا بخطوات هادئة حتى وقفت بجانبه تمامًا، ووضعت يديها خلف ظهرها، مستمتعة بصمت اللحظة، ثم همست:
“إذًا، من هو الذي تعطيه مهمة؟”
أدار كريستوفر رأسه نحوها ببطء، ثم رفع رأسه نحو السماء وتنهد. و قال بنبرة حزينة:
“أعتقد أنه ليس لدي خيار سوى إخبارك بالحقيقة… أنا في الواقع سيد منظمة خفية تعمل في الخفاء و تكسب مالها من المهام. و انا أخطط لإنقاذ العالم من شر قديم لذلك…”
توقف لبرهة، تنهد مجددًا، ثم تابع بصوت يحمل حزنًا عميق:
“أنا… أبحث عن القوة.”
“بووف!”
دوّى صوت ضحكة ميلينا في الأجواء، صاخبة ومفاجئة، تبعتها كلماتها الساخرة:
“هاهاها! يا لك من كاذب! من الأحمق الذي سيتبع طفلًا في الثالثة عشرة من عمره؟”
ابتسم كريستوفر بخفة وقال:
“ما دام هناك فوائد، فالعالم مستعد لاتباع حتى كلبٍ أعرج، فما بالك بطفل في الثالث عشر من عمره؟”
ضحكت ميلينا مرة أخرى، لكن ضحكتها هذه المرة كانت أقصر، كأنها توقفت فجأة لتتفكر في كلماته. ثم مالت برأسها نحوه قليلًا، وابتسامتها بدأت تتلاشى:
“أتعلم… أحيانًا أظن أنك لست طفلًا حقًا.”
أدار كريستوفر وجهه نحوها، وابتسامته ما تزال باهتة لكنها متماسكة.
“لست كذلك.”
ساد صمت خفيف. كان الليل قد اشتد، والنجوم بدأت تظهر في السماء المتشققة بضوء القمر، وكأنها تراقبهما من بعيد. ارتفعت الرياح قليلاً، وحركت خصلات شعر ميلينا التي أفلتت من تحت شريط عينيها الأبيض. بقيت واقفة بجانبه للحظات، ثم استدارت بهدوء، وقالت دون أن تنظر إليه:
“لا تبقَ في الخارج كثيرًا، الجو يبرد.”
ثم عادت بخطوات خفيفة إلى داخل الكهف، معطفها الأسود يتمايل خلفها مع كل خطوة، كأن الظل نفسه ينسحب معها.
ظل كريستوفر واقفًا في مكانه، لم يتحرك. تابع ظهرها وهي تختفي تدريجيًا داخل العتمة، ثم همس في نفسه:
“لم أشعر بها عندما أتت…”
ضيق عيناه الحمراوان قليلًا، وامتدت ابتسامة بالكاد مرئية على زاوية فمه.
“…يبدو أن ما أظهرته في تلك المعركة كان غيض من فيض”
رفع رأسه نحو السماء مجددًا، والريح الباردة تمرّ بجانبه. ظل هناك واقفًا، يفكر.
—
عاد كريستوفر إلى الكهف بخطوات هادئة، تجاوز اللهب الخافت للنار التي قاربت على الانطفاء، ومرّ بجانب جسد لوكس النائم، الملتف حوله السلاسل كما لو كانت جزءًا منه، قبل أن يجلس القرفصاء على الأرض قرب الجدار البعيد، حيث كان الظلام أكثر كثافة.
تنفس ببطء، أغمض عينيه، وبدأ التأمل.
لم يستغرق الأمر هذه المرة سوى دقيقة… دقيقتين بالكاد، حتى شعر بذلك الشعور المألوف كأن وعيه يُنتزع برفق من جسده. لم يقاوم. ترك نفسه يغرق.
وما إن فتح عينيه، حتى وجد نفسه من جديد في تلك المساحة المظلمة اللامتناهية. لا جدران، لا أرض، لا سماء. فقط هو… والقرص.
كان القرص يطفو أمامه، ببطء وثقل، ككوكب قديم يدور حول نفسه.
اقترب كريستوفر منه بخطوات هادئة، ورفع يده دون تردد. ما إن لامس سطح القرص حتى شعر ان وعيه يسحب مره اخرى ما ان فتح عينه مره اخرى وجد نفس في مساحة مظلمة اخرى امام نجم ازرق و النجم الاحمر المعروف بعين السماء.
وقف كريستوفر ويداه خلف ظهره أمام النجمين، يفكر.
“عندما يتم رايفن مهمته بشكل جيد ويأتي بمكونات الجرعة، سأمنحه تقنية تعزز قوته، وتشعره بأنه اقترب خطوة أخرى نحو الانتقام…”
ارتفعت زاوية فمه بابتسامة خفيفة، وعيناه الحمراوان تعكسان توهّج النجم الأزرق.
“عندها، سيتعزز ولاؤه أكثر لمجلس التيجان السبعة.”
تحركت عيناه نحو النجم الأحمر، اللامع والمتوهج في السكون، كأنه يراقب كل شيء.
“وكلما ازدادت قوته، ازدادت مكانته داخل المعبد… وعندها، باستخدام سلطته، يمكنني جمع المعلومات: ما هي المناطق التي يركز عليها المعبد؟ وما هي تحركاتهم القادمة؟ سأستطيع تجنبهم ببساطة، وهكذا… أضمن لنفسي بعض السلام المؤقت.”
صمت لوهلة، كأنه يقيس الاحتمالات في عقله، ثم تمتم بسخرية:
“حتى أجد طريقة للوصول إلى إحدى الطوائف الكبرى… مع استبعاد طائفة النقاء السماوي طبعًا، تلك الخاصة بالنساء.”
مد كريستوفر يده نحو النجم الأزرق، وتوهج الضوء الأزرق أكثر، للحظة قبل أن تلامس يده سطح النجم الأزرق، تمتم بصوت مغناطيسي خافت:
“أريد أن أرى أنسب تقنية لرفيق السيف… والتاج الأسود في مجلس التيجان السبعة، رايفن هارت كول.”
في لحظة لمس كريستوفر النجم الأزرق، شعر ان وعيه يسحب لمكان آخر.
ثم، فجأة، لم يعد في المساحة المظلمة.