مسار الصياد المولود من الظلال - ولادة الظل - رحلة إلى مكان جديد
في الشقة الصغيرة، جلس كريستوفر متربعًا على السرير، عيناه مغمضتان، أنفاسه بطيئة، وحركات صدره منتظمة.
“تهدئة العقل… تنظيم التنفس… استشعار المانا…”
لكنه لم يشعر بشيء.
مرت خمس دقائق، ثم عشر دقائق، ثم ساعة كاملة… ولا شيء.
كان كريستوفر يتّبع الخطوات بحذافيرها، خطوةً بخطوة، لكن دون أي نتيجة تُذكر.
“هل أنا عديم الموهبة؟ أم أنني أخطأت في تطبيق التقنية؟”
تساءل بصوت خافت، محاولًا التحقق من كل تفصيلة في ما فعله.
“لا… لا، أنا متأكد أنني طبّقتها بشكل صحيح. إذن، لماذا؟”
أحاط به التعب والإحباط.
لقد مرّ شهران منذ خروجه من مساحة القرص. في كل ليلة، بعد عودته من العمل في الحانة، كان يتدرب لمدّة خمس ساعات متواصلة… لكن بلا فائدة.
حاول العودة إلى المساحة، لعله يجد إجابة هناك، لكنها لم تستجب له منذ تلك الليلة. لم يستطع حتى الشعور بها.
أخذ نفسًا عميقًا، واستجمع هدوءه، ثم عاد إلى التأمل مجددًا.
مرّت ساعة… فتح عينيه.
لا شيء تغير.
فقط الصمت… وصوت الفئران تعبث في السقف.
“اللعنة…”
تمتم بانزعاج، ونهض من على السرير. شعر بوخز في قدميه من طول الجلوس.
اتجه نحو الستائر البالية، حرّكها بكسل، ونظر إلى الخارج.
المدينة كانت مزيجًا من الظلال والضوء، القمر يضيء بعض الأزقة، بينما الأماكن الأخرى مظلمة.
بينما كان يحدّق في المشهد، تسلّلت فكرة إلى ذهنه… فكرة بسيطة، لكنها منطقية جدًا.
“هل المانا في هذه المنطقة قليلة… أو معدومة تمامًا؟”
كلما فكّر فيها، بدت له أكثر منطقية.
لقد اتّبع خطوات تقنية “صقل السماء العظيمة” بدقّة. ووفقًا لما جاء فيها، حتى أسوأ المواهب يمكنها الشعور بالمانا خلال أسبوع واحد فقط.
أما هو… فقد مرّ شهران دون أن يحقق أي تقدم.
“إذن… هل يختلف تركيز المانا من مكان لآخر؟”
تأمل السؤال بعمق، وربطه بذكرياته عن “التشي” في روايات الخلود من عالمه السابق.
إن كانت المانا تتبع ذات المبدأ، فجلوسه هنا ليس إلا مضيعة للوقت.
“إن كان حدسي صحيحًا… فالمانا ليست موزعة بالتساوي في هذا العالم.”
حدّق في الأفق المظلم خلف زجاج النافذة، وصوته يتردد بالغرفة.
“الجبال، الغابات، الأماكن المهجورة البعيدة عن المدن… لا بد أن تركيز المانا فيها أعلى.
أغمض عينيه لوهلة، مسترجعًا أيامه الماضية.
“شهران كاملان قضيتُهما هنا، أُطبّق كل خطوة بدقة، ألتزم بتعليمات تقنية صقل السماء العظيمة، أنتظر شعورًا… أي شعور. لكن لا شيء.”
تنفّس ببطء، ثم تمتم في أعماقه:
“إن كانت المانا تشبه التشي الذي في روايات الخلود في حياتي السابقة، فالمكان يُحدث فارقًا.”
قرر كريستوفر التحضير لتجربة فكرته غدا.
في صباح اليوم التالي، ارتدى كريستوفر معطفه الرمادي البالي، ودسّ كيس نقوده الصغير في جيبه الداخلي، ثم خرج من الشقة متجهًا إلى الحانة.
كان الهواء باردًا نوعًا ما، والسماء ملبدة بغيوم رمادية ثقيلة. ورغم انه متحمس لتجربت فكرته، إلا انه لم يُسرع كريستوفر خُطاه.
حين دخل الحانة، استقبله رائحة الشراب المعتق والخبز المحمص، وصوت الضحك العالي من أحد الزبائن المخمورين.
كان العجوز هيرن، صاحب الحانة، جالسًا خلف الطاولة الخشبية الطويلة، كما اعتاد دائمًا. كتفاه العريضان يغطيهما معطف جلدي أسود، وشعره الابيض الأنيق، بينما تنبعث من عينيه الزرقاوين نظرة من الحكمة.
رفع العجوز رأسه حالما لمح كريستوفر، وغمغم وهو يملأ كوبًا:
“هاه، لماذا اتيت مبكرا اليوم.”
ابتسم كريستوفر بخفة، واقترب حتى وقف أمامه.
“صباح الخير يا عم هيرن. فكرت أن أسبق الضوضاء اليوم.”
“هممم… هل بدأت تشك أن العمل في الحانة يجلب الحكمة؟”
ضحك كريستوفر بخفة، ثم جلس على الكرسي المقابل. صمت لبرهة، ثم قال وهو ينظر إلى إحدى الزجاجات القديمة على الرف:
“أتعلم، كنت أفكر بشيء مختلف هذه الأيام…”
“شيء مختلف؟” رفع العجوز حاجبًا كثيفًا، “هل قررت أن تصبح راهبًا مثلاً؟”
“ليس إلى هذه الدرجة.” تنهد كريستوفر، ثم نظر نحوه. “لكنني أشعر أني بحاجة إلى تغيير الجو… ربما رحلة قصيرة، أستغل فيها الأسبوع القادم.”
نظر إليه هيرن مطولًا، ثم وضع الكوب على الطاولة بضربة خفيفة وقال:
“هل قلتَ… رحلة؟”
“أجل. وأريد أن أطلب إجازة لمدة أسبوع.”
“هكذا فجأة؟” قطّب العجوز حاجبيه، ثم مال للأمام، صوته ينخفض قليلًا: “لا تقل لي أنك تورّطت في مشكلة.”
هزّ كريستوفر رأسه بهدوء، نافيًا.
“لا مشكلة. فقط… أريد الابتعاد قليلًا. والتفكير.”
“أنت أصغر من أن تحتاج إلى التفكير، وصغير جدًا لتتحدث عن الرحلات كأنك رجل عجوز في التقاعد.” قالها مبتسمًا، ثم أكمل بنبرة أكثر جدية: “لكنني أراك شاحبًا منذ فترة. حسنًا، لك إجازة أسبوع… لكن بشرط.”
“ما هو؟”
“أن تخبرني إلى أين تنوي الذهاب.”
ضحك كريستوفر بصدق هذه المرة. ثم قال وهو يفرك جبهته:
“في الحقيقة… لا أعلم بعد. لكنني كنت أبحث عن أماكن لا يجب أن أذهب إليها.”
“لا يجب؟” ضيّق العجوز عينيه، ثم قال بنبرة غريبة: “لماذا؟.”
تردد كريستوفر لثانية، ثم قال بنبرة صادقة:
“لنفترض فقط أنني فضولي، ولا أريد أن أضيع في مكان خطير لمجرد جهلي.”
رفع هيرن رأسه قليلًا، يفكر، ثم قال:
“هممم… إن كنت تبحث عن الأماكن التي يُفضّل تجنبها، فهنالك ثلاثة يأتون فورًا إلى ذهني.”
رفع كريستوفر حاجبيه باهتمام، بينما تابع العجوز:
“أولها: سهل الصيد الدامي. مكان اسمه يشرح نفسه، أليس كذلك؟ منذ عقد، منعت المعبد المقدس دخول أي شخص إليه.
“لماذا؟”
“لا أحد يعلم، لكن شائعات كثيرة تدور حوله… البعض يقول إن الأرض هناك باتت خطيرة. آخرون يتحدثون عن وحوش شيطانية، باختصار، منطقة محظورة.”
هزّ كريستوفر رأسه، وسجّل المعلومة في ذاكرته.
“وماذا عن الثاني؟”
“جبال زارديت… ضباب كثيف يلفّ المكان طوال العام. لا أحد يعلم ما بداخله. القوافل التي تمر بمحاذاته دائمًا تختفي إن اقتربت كثيرًا.”
“كأن الجبل يبتلعهم؟” تمتم كريستوفر.
“شيء من هذا القبيل. لكنني لا أمزح، يا فتى. ذلك المكان كخطير للغاية. حتى المعبد نفسه لا يغامر بدخوله.”
“وماذا عن الثالث؟”
“غابة العظماء.” قالها هيرن بنبرة خافتة، ثم أضاف: “رغم الاسم، فهي أكثر مكان طبيعي بين الثلاثة. لكنها لا تزال… غابة. وحشية، مليئة بالمخلوقات الغريبة، وتاريخها غير واضح.”
سكت للحظة، ثم نظر لكريستوفر بنضرة حادة وقال:
“اذا أيهما سوف تذهب إليه.”
ابتسم كريستوفر وهو يهز رأسه لقد عرف انه كشف.
“في الواقع… أظنني قررت.”
“لا تقل لي أنك ستدخل سهل الصيد الدامي؟ سأضطر إلى تحضير جنازتك.”
“بل غابة العظماء. أحتاج فقط إلى طبيعة… وهواء نقي.”
“أجل، وهواء محمّل برائحة الوحوش.” تمتم العجوز، ثم نهض وهو يفتح درجًا صغيرًا خلفه. أخرج كيسًا جلديًا صغيرًا، وألقاه نحو كريستوفر.
“راتبك مقدمًا. لكن احذر، أيها الفتى… لا تُفرط في ذكائك. أحيانًا، الذكاء الزائد يُفقدك الحذر.”
أمسك كريستوفر الكيس، وقال بابتسامة جادة:
“شكرًا لك، عم هيرن. وسأحرص ألا أُفرط بأي شيء… لا الذكاء، ولا الحياة.”
ضحك العجوز بصوت عالٍ، ثم عاد إلى مقعده.
“اذهب إذن، يا فتى.”
خرج كريستوفر من الحانة بعد حديثه مع العجوز هيرن.
شدّ معطفه الرمادي حول جسده، ومشى بخطوات ثابتة نحو السوق الرئيسي للمدينة.
كان السوق، كما هو في كل صباح، نابضًا بالحياة. الأصوات تتداخل كأنها سيمفونية:
ـ “تفاح طازج من مزارع الجنوب!” “جلود مُعالجة! الأفضل لصنع الدروع!” “جرعات شفاء، مُجربة ومضمونة!”
الروائح امتزجت بين الخبز الساخن، والتوابل الحارة، ورائحة عرق الرجال المتزاحمين. كريستوفر مضى وسط الزحام، متجنبًا الباعة الذين يحاولون جذب الزبائن بصوت عالٍ.
وقف أولًا عند بائع كان رجلًا أصلع، كثيف الشاربين، جالسًا على صندوق خشبي مقلوب.
“أحتاج حقيبة خفيفة ومتينة… تكفيني لأسبوع، مع بعض الأدوات الأساسية.”
رفع الرجل رأسه، حدّق فيه لحظة، ثم أشار إلى واحدة سوداء اللون، مصنوعة من جلد الماعز:
“هذه تحملها الرياح ولا تتأثر بالمطر. وخفيفة كأنها من القماش.”
فحصها كريستوفر بسرعة. كانت جيدة. ثم أضاف:
“أيضًا، خيمة صغيرة، حبل، أدوات إشعال نار… وجرعات شفاء إن توفّرت.”
بعد دقائق، حُملت الحقيبة بكل ما يحتاجه، وتم تعليقها على كتفه الأيسر. بعد ذلك، اتجه نحو بائع أسلحة في الجهة الغربية من السوق.
كان بناء قديم ذو باب خشبي سميك تعلوه لافتة باهتة كُتب عليها “مطرقة النار”. دفع الباب بصوت صرير خافت، ليدخل إلى الداخل.
رائحة الحديد الساخن والحطب المحروق ملأت أنفه على الفور، تبعتها موجة من الدفء المنبعثة من موقد في الزاوية الخلفية، حيث كان رجل ضخم القامة، أصلع الرأس، بساعدين يكسوهما الشعر الكثيف، يدق على قطعة فولاذ ساخنة بمطرقة ثقيلة.
رفع الرجل رأسه لحظة، نظر إلى كريستوفر بعين واحدة فقط الأخرى مغطاة برقعة سوداء ثم قال بصوت خشن:
“الزبائن لا يأتون باكرًا عادة. تبحث عن سلاح، أم مجرد متفرج؟”
“سلاح.” قالها كريستوفر دون تردد. “سيف خفيف.”
ترك الحداد مطرقته، مسح جبينه بقماش رمادي، ثم أشار نحو الحائط الجانبي، حيث عُلّقت مجموعة من السيوف.
“جرّب هذا.” قال وهو يشير إلى سيف بنصل ضيق لامع، وقبضة ملفوفة بجلد بني.
أمسك كريستوفر السيف. كان متوازنًا بشكل ممتاز، لا ثقيلًا ولا خفيفًا، وكأنّه خُلق ليدخل في يده.
“كم سعره؟”
“ثمانية وعشرون قطعة نحاسية.” أجاب الحداد، ثم أردف وهو يعاين كريستوفر بنظرة خبيرة: “ستحتاج إلى حافظة جلدية أيضًا… وعناية كل أسبوع إن أردت له أن يبقى لامعًا.”
أومأ كريستوفر، ودفع المبلغ دون جدال. ثم خرج وهو يربط الحافظة على خاصرته، والسيف في داخلها، بثبات.
بعدها توجه إلى ركن المؤن، حيث انتشرت اكشاك صغيرة، يبيع أصحابها الخبز المجفف، واللحم المقدد، وأكياس الأعشاب المقاومة للعفن.
اشترى ما يكفيه لأسبوع، وأضاف قارورة ماء محكمة الإغلاق، وحبلًا خفيفًا، ومصباحًا زيتياً صغيرًا.
وقبل أن يغادر، اتجه نحو الزاوية الشرقية للسوق، حيث تتجمع الأكشاك القديمة، ومحلات الأشياء النادرة.
كان متجر الخرائط هناك، باب خشبي مائل قليلًا، وفوقه لافتة باهتة كتب عليها: “أورماس – خرائط وقصص السفر”.
فتح كريستوفر الباب فسمع صوت جرس صغير. رائحة الورق القديم والحبر الجاف استقبلته، والمكان مضاء بمصباح زيتي يتمايل ضوءه مع حركة الهواء.
خلف المنضدة جلس رجل مسن، أصلع تمامًا، بأنف معقوف ونظارات سميكة تغطي عينيه كأنهما عدستان مكبرتان.
“مرحبًا، أبحث عن خريطة لغابة العظماء.”
رفع العجوز نظارته، وحدّق فيه كأنما يقيسه.
“غابة العظماء؟ ما الذي يدفع شابًا مثلك إلى هناك؟”
“فضول، وبعض الهواء النقي.” قالها كريستوفر بابتسامة صغيرة.
لم يعلق العجوز، بل نهض ببطء، وسحب درجًا خشبيًا، وأخرج منه لفافة مشدودة بخيط جلدي.
“هذه أحدث نسخة. تم تحديثها منذ عامين بعد أن ضلّ مستكشفٌ طريقه هناك لأسبوع كامل.”
بسطها على الطاولة. كانت الخريطة دقيقة بشكل مفاجئ: تُظهر الغابة وممراتها، نهرًا صغيرًا يشق وسطها، وبعض الرموز المجهولة مرسومة في أماكن متفرقة.
بينما كان كريستوفر يراجع تفاصيل الخريطة، سمع همسًا قرب الباب. اثنان من الزبائن يتحدثان بهمس مستعجل:
“هل سمعت؟ المعبد المقدس أغلق الممر الشرقي.”
“نعم، قريب لي كان مسافرًا أمس، وتمت إعادته من الممر الشرقي. قالوا له: “أمر مقدّس”، ولا أحد يخرج أو يدخل.”
“لكن لماذا؟ لا أحد يشرح شيئًا.”
شعر كريستوفر بأن جسده تيبّس للحظة. تبادل نظرة سريعة مع صاحب المتجر، الذي قال بصوت خافت: أن المعبد المقدس يذهب بعيدا حقا
“المعبد المقدس…” تمتم في نفسه. شعور غير مريح اجتاحه، لكنه سرعان ما تلاشى عندما عاد إلى تفكيره الرئيسي. غابة العظماء. اماكن ذات تركيز مانا. كان هذا هو هدفه الآن، وليس المعبد.
لذلك تجاهل كريستوفر كلماته، واهتم بما هو أمامه فقط. نظر مرة أخرى إلى الخريطة، ثم رفع عينيه نحو العجوز وقال بجدية:
“الخريطة مناسبة، كم سعرها؟”