مسار الصياد المولود من الظلال - ولادة الظل - التأمل، والسيف، والظل
بدأ كريستوفر الجولة الثانية من التأمل وقد أصبح ذهنه أكثر ثباتًا. المشاعر المتضاربة التي كانت تشتته في السابق الخوف، الشك، والحنين لعالمه القديم بدت بعيدة، كما لو أن الهضبة نفسها تحميه منها. كان كل شيء حوله صامتًا، إلا من همسات الريح في الأعشاب العالية وخرير جدول بعيد بالكاد يُسمع.
ثبّت وعيه عند مركز صدره. هناك، حيث شعر بتلك النقطة الباردة. لم يحاول إجبارها على الحضور، بل اكتفى بالاستماع لها… الانتظار بصبر، كصياد يترقّب أنفاس فريسته.
مرت الدقائق، وربما الساعة، لا أحد يراقبه سوى السكون. وفجأة، شعر بها مجددًا. لم تكن نقطة واحدة هذه المرة، بل عدة خيوط ضبابية… خفيفة، لا تُرى، لكنها كانت تنساب نحوه من الهواء، من الأرض، من كل اتجاه.
“هذا هو… هذا ما كنت أفتقده،” تمتم في ذهنه.
رابعًا: سحب المانا ببطء.
بدأ يتخيل تلك الخيوط تنجذب إلى داخله. لم يكن سحبًا عنيفًا، بل كمن يفتح نافذة ليترك النسيم يدخل وحده. لكن بمجرد أن لامست المانا حدود جسده… بدأ الألم.
في البداية، كان الأمر كلسعة باردة في أطراف أصابعه، ثم تحوّل تدريجيًا إلى وخز مؤلم ينتشر عبر عروقه. المانا التي امتصها لم تكن نقية، بل ملوثة… كأنها تحمل شظايا زجاج تسري في دمه.
ضغط على أسنانه محاولًا التحمل، وعرق بارد انساب من جبينه. صدره ضاق، وأنفاسه تسارعت، لكنّه لم يتوقف.
خامسًا: تنقية المانا.
حان الوقت للخطوة الأصعب. بدأ يمرر المانا عبر التصوّر الذهني لتقنية “صقل السماء العظيمة”، متخيلًا شبكة مصفاة خيالية تشق طريقها عبر جسده. كلما مرّت خيوط المانا عبرها، خفت الألم قليلاً… لكنه لم يختفِ تمامًا.
شعر أن المانا كانت تقاوم، ككائن غريب لا يريد الخضوع، لكن تنقيتها ولو جزئيًا خفّفت الحدة بما يكفي ليستمر.
سادسًا: تكوين البذرة.
ببطء، تجمعت المانا المصفاة في مركز صدره. كانت غير مستقرة، تتذبذب، لكنها بدأت تتكاثف كنقطة ضوء صغيرة. الألم تراجع، تاركًا وراءه إحساسًا بالحرارة والنبض… وكأن قلبًا جديدًا قد وُلد بداخله.
مرت ثلاث ساعات منذ بدأ الجلسة، وحين فتح عينيه أخيرًا، كانت الشمس تميل نحو المغيب، تلون السماء بدرجات برتقالية مذهلة.
لكنّه بالكاد لاحظ الأفق، كان انتباهه كله منصبًا على الشعور الغريب في صدره. لم تكن بذرة حقيقية بعد، بل ما يشبهها… كتلة غير مستقرة من المانا المنقّاة، نابضة وضعيفة، وكأنها جنين لم يكتمل.
“شبه بذرة…” تمتم، وهو يضغط على صدره بأصابعه.
كان يعلم من الدرس في القرص أن هذه المرحلة حساسة جدًا، لا يمكنه البقاء في هذا الوضع طويلاً. بقايا المانا الملوثة التي لم يستطع تنقيتها بالكامل سوف تتراكم في عروقه، تسري ببطء كسمٍ خفي. إذا لم يُكمل تكوين البذرة خلال أقصاه شهر… سوف يموت.
وقف ببطء، وقد خفّ الألم قليلًا، لكن الإحساس بالحرقان في عروقه لا يزال قائمًا.
كان عليه تكرار التقنية يوميًا، دون انقطاع، لتنقية الكمية الكافية من المانا، ثم ضغطها حتى تتكثف وتستقر على هيئة بذرة حقيقة.
سحب دفتره الصغير من الحقيبة وسجّل الملاحظة الأولى:
اليوم الأول من محاولت تكوين البذرة – الهضبة الغربية
نجاح جزئي: تكوين شبه بذرة.
الألم مستمر. بقايا المانا الملوثة تتسبب بحرق داخلي في العروق.
المرحلة حرجة – يلزم تكوين البذرة الكاملة خلال شهر، وإلا سيتسبب تراكم المانا الملوثة بقتلي.
أنهى كريستوفر كتابة ملاحظته الأولى بيد مرتجفة، وألقى نظرة أخيرة على الأفق المشتعل بلون الشمس الغاربة.
رغم التعب الذي أثقل جسده، ورائحة العرق والدم التي امتزجت بملابسه، إلا أن عينيه كانتا لامعتين… شبه البذرة تشكّلت.
لكنه لم يكن غافلًا عن الخطر.
كان يعلم من المعلومات التي حفظها من “القرص” أن تراكم بقايا المانا الملوثة قد يكون مميتًا، خاصة إذا فشل في الاستمرار. كان أمامه شهر واحد.
لهذا… اتخذ قراره.
“سأبقى هنا… على هذه الهضبة، حتى تكتمل البذرة.”
بدأ بنصب خيمته الصغيرة على الجانب الشرقي، حيث تحجب صخرة ضخمة الرياح الشرسة.
ثبت أوتادها بحذر، واختبر مقاومة القماش، ثم أحكم عقد الحبال، مستفيدًا من معرفته السابقة.
حين دخلها أخيرًا، كان جسده يئن من الإرهاق.
لكن الابتسامة التي خطّت شفتيه لم تكن من التعب… بل من القرار.
قرار العزلة.
قرار المواجهة.
هنا، على هذه الهضبة المنسية، سيولد من جديد.
اليوم الثاني على الهضبة الغربية
استيقظ كريستوفر قبل الشروق بلحظات، وخرج من خيمته ببطء.
الضباب لا يزال يكسو الهضبة، والبرد تسلّل إلى عظامه، لكن ذلك لم يمنعه من الجلوس مجددًا في مكانه المعتاد، على الصخرة المسطحة.
جسده كان متيبسًا، وحرارة خفيفة تسري في عروقه من بقايا جلسة البارحة، لكنه تجاهل كل ذلك.
جلس بثبات وبدأ الجولة الثانية من تقنية “صقل السماء العظيمة”.
التنفس… تهدئة العقل… توسيط الوعي في مركز الصدر…
النقطة الباردة هناك، لا تزال تنبض.
حين بدأ بسحب المانا، تسلّلت إليه الخيوط الخفيفة من كل الجهات.
وبمجرد أن لامست جسده… بدأ الألم.
كان أكثر حدة من الأمس.
كالنار، لكنها باردة. كأن آلاف الإبر المصنوعة من الجليد شقت طريقها عبر عروقه.
تعرّق وجهه، وارتجفت أطرافه، لكنه لم يوقف التقنية.
ببطء، مرّر المانا عبر “المصفاة” الذهنية، متخيلًا شبكة شفافة تنقي كل خيط يمر بها.
استمر الألم… لكنّه كان مألوفًا الآن، يمكن احتماله.
ثم… حدث شيء غريب.
بينما تتجمع المانا المنقّاة في مركز صدره، استعدادًا لدعم شبه البذرة…
شعر بانحراف مفاجئ في أحد الخيوط. لم تتجه إلى الداخل… بل انزلقت نحو ظله.
فتح كريستوفر عينيه دون أن يتحرك.
ظلّه أمامه، ممدود بفعل ضوء الشمس الصاعد… بدا عاديًا.
لكنه شعر به يتغيّر.
المانا دخلت إليه، وكأن الظل تحرك.
ثانية واحدة… ثم اختفى الإحساس.
جلس في مكانه مذهولًا، واضعًا يده على الأرض بجانبه، كأنه يحاول تأكيد أن ما شعر به لم يكن وهمًا.
“ما هذا؟ هل أخطأت؟ هل تسرّبت المانا؟”
أحس بعدم يقين غريب، لكن لم يكن هناك ألم أو ضرر ظاهر.
كل شيء عاد لطبيعته… وشبه البذرة لا تزال تنبض في صدره، بل بدا أنها أقوى قليلًا.
سحب دفتره ودوّن بهدوء:
اليوم الثاني – من محاولت تكثيف البذرة
استمرار التأمل. تم تنقية كمية جديدة من المانا بنجاح.
شبه البذرة أكثر استقرارًا.
ملاحظة غير مفسّرة: أحد خيوط المانا المصفاة انجذب إلى الظل.
لا توجد أعراض جسدية واضحة. المراقبة مستمرة.
أغلق الدفتر ببطء، محدقًا في ظله الذي بدأ يبهت مع صعود الشمس.
وقف كريستوفر على الهضبة، وقد سحب سيفه الخفيف من جرابه الجلدي، وترك الغمد إلى جانبه على الصخرة المسطحة. الهواء البارد لفح وجهه،.
أمسك كريستوفر قبضة السيف بكلتا يديه، محاولًا تذكّر ما رآه من تدريبات بالسيف في حياته السابقة، في الأفلام أو عروض الفنون القتالية القديمة التي تابعها. لم يكن محاربًا، ولم يتلقَ يومًا تدريبًا رسميًا، لكن الرغبة التعلم جعلته يتذكر التفاصيل… وضعية القدمين، توازن الجذع، وزاوية الضرب.
وقف بثبات على أرض الهضبة، قدماه متباعدتان قليلًا، وركبتاه مثنيتان بشكل طفيف،.
“ابدأ بالأساسيات…” تمتم لنفسه.
رفع السيف أمامه، مستعرضًا الضربات الأربع البسيطة التي يعرفها: ضربة مائلة من الأعلى إلى اليمين، أخرى تقطع من اليسار إلى الأسفل، ثم ضربة أفقية من اليمين، وأخرى من اليسار. كانت الحركات خشنة، وتفتقر إلى الانسيابية، لكنه استمر.
بعد كل ضربة، يتوقف للحظة، يعدّل وقفته، يتأمل الظلال التي يرسمها السيف على الأرض، ثم يعيد الكرة. لم يكن هدفه السرعة أو القوة، بل الفهم… الفهم الحركي الذي يولد من التكرار.
ومع مرور الوقت، بدأ جسده يتعرّف على الإيقاع.
عشرون دقيقة من الحركات البطيئة، ثم توقف، يلهث. يديه تؤلمانه، خصوصًا عند المعصمين. السيف وإن كان خفيفًا، إلا أن حمله بهذا الشكل يتطلب عضلات لم يعتد استخدامها.
جلس على صخرة، تنفس بعمق، ثم أخذ يتذكر و يعيد استرجاع تدريبه.
ثم عاد للوقوف.
“جولة ثانية، لكن هذه المرة… مع الحركة.”
بدأ يتحرك للأمام وللخلف، يحاول التنسيق بين الخطوات والضربات. كانت خطواته مترددة، والسيف يرتجف في يده أحيانًا، لكن شيئًا داخله كان يستمتع بهذا التحدي الجديد.
كل حركة كانت درسًا.
حين زلّت قدمه في حفرة صغيرة، سقط على ركبته، وارتطم طرف السيف بالصخر محدثًا شرارة خافتة. شتم بصوت خافت.
“اللعنة!”
استند على السيف ليقف، وواصل التدريب، مخصصًا آخر عشر دقائق لمحاولة محاكاة الدفاع رفع السيف بزاوية ليصد ضربة وهمية، ثم تخيّل ارتدادها، وتابع بحركة عكسية.
وعندما أنهى الساعة الأولى من التدريب، جلس على الأرض، متعرقًا، يلهث، لكن في عينيه الحمراء القليل من الرضا.
جلس كريستوفر على حافة الصخرة، محدقًا في الأفق الذي بدأ يتلون. عضلاته متيبسة، ويداه ترتجفان من الإرهاق، لكن ابتسامة خفيفة كانت ترتسم على شفتيه، كأن الألم نفسه بات مألوفًا… وكأن جسده بدأ يعترف بهذا الواقع الجديد.
أخذ نفسًا عميقًا، ثم عاد إلى خيمته. اخذ قربة الماء، و قطعة قماش وبللة ومسح وجهه، محاولًا إزالة العرق المالح. عندما انتهى.
أسند ظهره إلى الجدار القماشي للخيمة، مستمعًا إلى أصوات الطبيعة خارجها. خرير الجدول الخافت، صفير الرياح في العشب، نعيق غراب بعيد… كلها أصوات أصبحت مألوفة، كأن الهضبة نفسها بدأت تعتاد عليه.
لكنه لم ينسَ ما حدث في التأمل.
ظلّه.
تلك الخيوط من المانا التي انجذبت نحوه.
لكنه قرر أن يدع الأمور تأخذ مجراها.
أغمض عينيه وذهب إلى النوم.