مسار الصياد المولود من الظلال - ولادة الظل - البداية بعد النهاية
في إحدى المدن، كان البروفيسور جون، أستاذ علم الآثار في الجامعة، يعيش حياةً هادئة مع عائلته المحبّة. رغم عمله الأكاديمي، لم تكن محاضراته ومقالاته العلمية كافية لإشباع شغفه الأبدي، استكشاف الآثار القديمة بنفسه، و النبش في القبور المظلمة، وتجميع القطع القديمة. لذلك، في كل عطلة جامعية، كان يترك مكتبه ويشارك كخبير استشاري في شركة “للتنقيب”، ليموّل رحلاته إلى الأماكن النائية.
تلك اللحظات التي كان يقضيها في استكشاف المجهول كانت تشعل حماسه. أما زملاؤه في الشركة، فكانوا ينادونه “بروفيسور” تقديرًا لخبرته، لكن قلوبهم كانت ترتعش من جرأته. فبينما كانوا يكتفون بالتنقيب في المناطق الآمنة، كان هو يُصرُّ على اختراق الأماكن المحظورة، تلك التي تُعتبر “لُعنةً”بالنسبة للسكان المحليين.
ثم جاء اليوم الذي عاد فيه من أحد استكشافاته، وهو يحمل في يده قطعة أثرية غريبة قرصٌ سطحه مليء بالرموز الغريبة، كأنها لغة قديمة نَسِيَها التاريخ. كانت هذه القطعة في أحد القبور القديمة، وكل شيء حولها بدا قديمًا وكأنه من عصرٍ غابر. ورُفقة هذا القرص، كان هناك لفافة قديمة مُحاطة برموز غامضة.
عاد البروفيسور إلى منزله بفضول وحماس. وضع القطع الأثرية على طاولته وأضاء المصباح فوقها. كان القرص بين يديه، ملمسه بارد وخشن وغريب.
فتح اللفافة بحذر، وعيناه تتجولان على الحروف الغريبة المكتوبة بها. لمحت عيناه الحروف وكأنها تتحرك تحت ضوء المصباح، وعندما حرّك المصباح إلى زاوية أخرى، توقفت. لعل التعب بدأ يؤثر على حواسه.
“هل تخيلتُ؟” همس البروفيسور جون لنفسه، وأخذ نفسًا عميقًا ثم بدأ ينظر إلى أسفل الصفحة. رأى دائرة سحرية مرسومةً بدقة، تحتها سطورٌ باهتة:
“لِفتح الباب الموصد، ارسم العلامة، ضع المفتاح، وأنشد النداء.”
اخترقت ضحكته الساخرة صمت الغرفة. “خرافات!”، لكن قدميه خانتاه.
وقف من الكرسي ودفع الكتب والخرائط المبعثرة على الأرض ليصنع مساحة خالية، ثم رسم الدائرة السحرية المرسومة في اللفافة باستخدام حبر أسود من قارورة قديمة احتفظ بها لدراساته.
نظر إلى الرسمة التي رسمها وابتسم، ثم التفت إلى الطاولة وأخذ القرص ذا الملمس الغريب الذي كان بحجم قبضة اليد.
وضع القرص في منتصف الدائرة، وأخذ اللفافة من على الطاولة ليقرأ التعليمات مرة أخرى: “أنشد النداء”. أدار نظره إلى النص المكتوب تحت التعليمات.
ثم جاء دور تلاوة النص. تردّد قليلًا قبل أن يرفع صوته، و بدأ ينطق بما كان مكتوبًا في اللفافة:
“”بصدى الأزمان المندثرة، وبصمت الفجر المجهول،
بخطى لا تترك أثراً، وبهمسات لا يدركها الوعي،
يا من يسكن حيث لا ضوء ولا ظلال،
افتح البوابة، حرّر الحقيقة، وأرني ما حُجب عن الأعين!”
عند نطقه للكلمة الأخيرة، اهتزّت الغرفة بشدة. ظلالٌ غريبة بدأت تتمدد على الجدران، كأنها تبتلع كل شيء في طريقها. شعر بقوة هائلة تمزق كيانه الداخلي، وكأن شيئًا ما كان يخرج من داخله، يهزّ جسده في كل زاوية.
كانت الرؤية مشوشة، والظلام يلفُّ كل شيء… ثم أُغمي عليه.
—
بعد فترة طويلة…
“آه… رأسي!”
استيقظ البروفيسور جون ليشعر أن رأسه على وشك الانفجار، وأن وعيه مشوَّش. حاول فتح عينيه لكنه لم يستطع. عندما حاول تحريك جسده، اجتاحه ألمٌ لا يُوصف في جميع أنحاء جسده، فأُغمي عليه مرة أخرى.
بعد فترة…
فتح البروفيسور جون عينيه بصعوبة، ليبدأ بالنظر حوله في المكان غير المألوف غرفة بتصميم غريب. شعر بالصدمة من المشهد أمامه.
“ماذا حدث؟ ألم أكن أجرب طقسًا سحريًّا؟ وما هذا المكان الغريب؟” قال بصوتٍ يملؤه الشك والحيرة، مع قليلٍ من الخوف. نظر إلى السرير الخشبي والبطانية البالية والملابس البالية. كلما أمعن النظر، زاد خوفه من المجهول.
رفع يده ولاحظ أنها بدت أصغر من قبل. شعر بموجة ذعرٍ مفاجئة، فقفز من السرير وركض نحو مرآة قديمة. فوجئ بالوجه الذي رآه، صبي صغير ذو شعر أسود طويل مربوط، وعيون حمراء كالياقوت، ووجهٍ وسيم.
“ماذا؟! هذا ليس أنا!” قال البروفيسور جون، وامتزج الخوف بصوته. بدأت نبضات قلبه تتسارع، وفجأة اجتاحه صداعٌ وألمٌ خارق في رأسه، كأنما ضُرب بمطرقة. فقد قوته وسقط على ركبتيه.
“اهدأ…” اخذ نفس بعمق بعد أخذ بضعة أنفاس، وحاول تهدئة روعه. ثم. بدأت موجة من الذكريات تجتاح ذهنه….
همس البروفيسور جون لنفسه: “قارة نوفاليم… مملكة كلاود… مدينة العنقاء…”
اتسعت عيناه بصدمة، وامتلأ وجهه بالذهول وهو يحدق في انعكاسه في المرآة.
ثم تمتم بصوت مرتجف: “لقد انتقلت…”