سجلات الذات المنسية - الفصل الثاني أزقة الفقراء
هيمن اللون الأخضر على الطائفة من أردية التلاميذ حتى أشجار الصفصاف التي ملأت الطرقات. حتى الأحجار قد يخيل للمار أنها قد طالها الإخضرار، لكن ذلك اللون النَضِّر لم يجلب السلام وبين أطيافه تزدان الومضات.
سار التلاميذ بين هذه المساحات الغضة بانتظام، بين المتوتر الخائف والمستعجل الفرح لكن ذاك المشهد العابر لاولئك العائدين من المهام، مضرجين بدمائهم منهكين وقد نهشتهم الآلام، قد كسر هذا الانسجام.
ووسط ذلك المشهد البديع، انطلقت من أحد نواحي الطائفة هالة مهيبة ترتعش لها الأطراف وترف لها الجنان وتبهت منها العقول.
“هالة بناء الأساس! أي نزقٍ قد أطلق هالته وسط الطائفة؟”
“هشش! أتود أن ينزل بك العقاب؟ لا تجرني معك”
استمرت النقاشات بأصوات خافتة خائفة، وقد عمت تلك الأخبار الأنحاء، فمن لم يشهد الإطلاق المتهور لهالة الخبير المتواري، فقد طال سمعه تلك النميمة التي شاعت في أرجاء الطائفة!
عندما وصل تشيان لينغ إلى بوابة الطائفة، مستهلًا أولى خطوات مهمته، وجد أن المصفوفة قد فعلت، وعلت ملامح الصرامة وجوه الحراس، أشهروا أسلحتهم ولاحت تعاويذ صفراء من أكمامهم.
نظر للمشهد أمامه وعدم الفهم واضحٌ على معالمه، وكاد السؤال يخرج من فمه، لكنه آثر أن يحتفظ بفضوله لوقت آخر، فما بين يديه أهم و أَوْلَى بالاعتبار. لذا تقدم بخطوات واثقة وأخذ قطعة اليشم المعلقة على خصره وسلمها بهدوء للحراس.
أخذ الحارس قطعة اليشم الزمردية بهدوء، وذهب لمنصة حجرية مرتفعة عن الارض بقدم او اثنين ثم وضعها عليها، لمعت المنصة الحجرية وظهرت صورة وهمية أمامه، حدق تشيان لينغ النظر لعله يلمح محتواها لكن لم يرى غير السراب.
أعاد الحارس قطعة اليشم وفتح له طريقًا لخارج الطائفة، وطوال هذا المشهد لم يتكلم أحد معه، أحس بصمتهم يخنقه والعرق قد بلل ظهره لكنه علم في قرارة نفسه أنهم لم يستقصدوه.
‘ما بال الطائفة اليوم، يبد أن عمري قد قَصُر’ بدأت أفكار الندم والتحسر تتسلل إلى ذهنه لكن صوت سائق العربة الذي امتلأ بالحماس قد قاطع قطار أفكاره.
“سيدي الشاب أتحتاج لتوصيلة؟ أسعارنا جيدة وعرباتنا مستقرة!” قالها بلهفة وبدا كأنه سيواصل حديثه عن ميزات عربته لولا أن تشيان لينغ قد قاطعه بخفة.
“خذني إلى الأزقة القديمة، أزقة الفقراء تحديدًا”
حاول السائق اجراء محادثة بعدما ركب تشيان لينغ وانطلقوا في طريقهم.
تنحنح السائق وقال “احم أهناك مكان محدد تود مني التوقف عنده؟”
رد تشيان لينغ بجملة قصيرة “يكفي أن تنزلني عند بداية تلك الأزقة…”
لكنه سرعان ما استدرك على ما قال “بل أنزلني بقرب مبنى الأمن في تلكم المنطقة”
مضت الرحلة بأمان، لم يشعر تشيان لينغ بأي اضطراب أو عقبات وصاحبته رائحة البخور المنعش طوال الرحلة.
“سيدي الشاب لقد وصلنا، أجرتي هي 8 قطع فضية”
تحدث السائق بحماس ولهفة فهكذا رحلة لا تأتي كل يوم.
فتح تشيان لينغ حقيبته البعدية، وأخرج قطعة ذهبية بحجم مفصل الاصبع، ثم رماها على السائق، تلقفها السائق بخوف وحاول أن لا تقع من يده، ثم تنهد ووضع القطعة في كيس النقود، ذاك المخبئ تحت كرسي السائق، وأخرج الباقي.
“إليك الباقي يا سيدي الشاب” ظهرت قطعتان فضيتان بحجم مماثل للقطعة الذهبية في كف الرجل، لكن تشيان لينغ دفع يده، وأخبره أن يحتفظ بالباقي، دون أن يعير أي اهتمام للوضع.
‘لَكَم أنا محظوظ فسيد شاب بهذا الكرم لا يأتي كل يوم’
لم يباعد الخطى حتى بات أمام مبنى بلوحة مكتوب عليها “مكتب الأمن”، توقف للحظة كأنه يفكر للحظة في المسار التالي، ثم استجمع شتات نفسه وولج الباب. استقبله شاب يحمل هراوة بنظرة حذرة “عرّف بنفسك وغرضك رجاء”
أمسك ذات اليشم المعلق على خصره، وألقاها أمام الشاب الحذر، حاول الشاب التظاهر بالشجاعة، وأخفى يده المرتعشة في أكمامه، لكن حالما رأى تلك القطعة من اليشم خف قلبه، وتبخر قلقه وحل مكانه الاحترام والتوق الشديد.
عندما رأى تشيان لينغ وجه الراحة، وحالة الاسترخاء التي طالت الشاب، قال بصوت يحمل نبرة قوة “أمرت أن أحقق في قضية جرائم القتل المتسلسلة في هذه المنطقة”
توقف لبرهة حتى يدرك الشاب كلامه، ويفهم مغزاه ثم تابع بنبرة أخف “قُدني إلى أحدث تلك الجثث”
قاده الشاب باحترام ولهفة، لم يتكلم بحرف فقد خاف أن يزعج هذا السيد الخالد، لكن احترامه وشوقه لتلك الحياة المتعالية قد كاد يطغى عليه.
جاوزوا الغرفة تلو الاخرى حتى وصلوا إلى سلم يقود لطوابق دنيا، تراكمت طبقات الفطريات والعفن على جوانب السلم المتهالك، أعطت الاضاءة المنخفضة والجو البارد مع هذه السلالم المتهالكة جوً غريبًا كأن شبحًا يتربص بهم.
في النهاية وصلوا لباب حديدي ضخم ذي لون ازرق قاتم، ومع تلك الخدوش والشقوق في زواياه زاده ذاك مهابة. بحث الشاب بين المفاتيح المعلقة على خصره، ومن ثم فتح الباب. وجهه الحازم قد خانه تلك الرعشات التي تتسلل من أكمامه.
على طاولة تتوسط الغرفة رقدت جثة مشوهة، اقترب تشيان لينغ ببطء، ألقى بضع نظرات حتى خيل إليه تداخل الواقع مع الصور السابقة، ثم أخرج من حقيبته البعدية تعويذة بلون أصفر فاقع بطول كف اليد.
ضخ طاقته الروحية في التعويذة التي أنارت الغرفة، ثم ألصقها بالجثة. تابعت التعويذة استنزافه حتى بهت لون وجهه وخبا نور عينيه، لكن توهج التعويذة المتواصل لم يقوض عزمه.
استمر ذلك لبرهة ثم صمتت الغرفة، وعادت لحالتها الأولى.
‘هوه هوه! هذه العلقة! لقد استنزفت ثلثي طاقتي!’
لم يعر مزيد اهتمام للشاب الواقف بجانبه، ظهرت هالة مرئية لعينيه دون سواه، وتتبعها بلهفة وبعض الحذر. أثناء ملاحقة الهالة أخرج سيفه، وعدة تعويذات صفراء بلون باهت وأبقاها في كمه.
‘لنرى إلى أين ستقودنا الهالة المتبقية’
سرعان ما قادته قدماه إلى بيت قديم في أحد الأزقة، حيث تلاشت الهالة المبعثرة. التفت ليمينه ويساره فاحصًا محيطه بعين حذقة، ونفس يملؤها الهلع من المجهول. ثم طرق الباب طرقات خفيفة وانتظر.
شد قبضته على سيفه، وقد سرع من دوران طاقته تحضيرًا وتهيبًا، غير أن تلك الجهود ذهبت مع الريح، فتراخت قبضته وتباطأت طاقته حالما رأى السيدة العجوز. وقفت السيدة العجوز خلف الباب بنظرة قلقة، وإلى جانبها طفل صغير لم يجاوز العاشرة، يغطي شعره عينيه ونصف وجهه
“أيتها العجوز من يعيش هنا غيركم؟” سأل بنبرة استجواب فلم يخيل إليه قط أن امرأة عجور قد تكون القاتل.
فحص هالتها المضطربة أثناء كلامه، في أشدها لمست قمة عالم تحسين الجسد، وعند خفوتها قاربت المرحلة الأولى.
لمحت العجوز قطعة اليشم المعلقة على خصره، وتلك التعاويذ المخبئة في كمه، لذا لم تجرؤ على التباطؤ “أيـ…أيها السيد الخالد كما تعلم… في أحياء الفقراء… تعيش بعض العوائل تحت سقفٍ واحد”
ثم توقفت لبرهة وتابعت بصوت متعب “لذا هناك ثلاث عوائل تسكن هنا هم عائلة الأبله وانغ وعائلة الأعرج هوانغ وعائلة هذه الأرملة العجوز لونغ”
فتح تشيان لينغ فمه، لكن صوت الخطوات قاطعه. لم يكد يلتفت خلفه ليرى القادم حتى سمع خطوات متسارعة!
‘مذنب!’
لم يهتم كثيرًا بالعجوز وذلك الطفل، لقد تلونت قدماه بهالة زرقاء ثم أسرع مطاردًا الهارب.
ومن خلفه نطق الطفل لأول مرة بصوت متحمس “أنا أشجعك أيها الأخ الأكبر”
لم يعرف أحد هل قصد تشيان لينغ بتلك الكلمات أم الهارب.
استمرت المطاردة لأقل من دقيقة فما للفاني حيلة أمام خالد، استخدم تشيان لينغ أحد التعويذات، والتي تحولت لحبل طاقة بلون أزرق أحاطت القاتل، ولفته من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه.
اقترب منه بخطى حذرة فهو لم ينسى تعاليم الشيوخ.
“اخبرني باسمك”
“…”
حل الصمت ضيفًا على المكان، فالهارب لم يلفظ بحرف وتشيان لينغ بقي ينتظر الإجابة.
“أجبني قبل أن أذيقك الويل” هدده تشيان لينغ لكنه علم في قرارة نفسه أنها تهديدات جوفاء.
تذكر للحظة كلمة لأحد الشيوخ “أحيانا المهم هو إظهار القدرة والرغبة فهي أوقع في النفس من الفعل ذاته” ولعل كلماته قد أفلحت هنا.
“سيدي الخالد، ليس أنا ليس أنا!”
“نفذت أوامره فقط، اعفو عني رجاء”
حاول استعطاف هذا الشاب الجاهل بأمور العالم بتلك الجمل القلائل.
“إذن أخبرني من سيدك؟”
رد الشاب المقيد والارتياح بادٍ على وجهه “سيدي ومن أمرني بتلك الفظائع هو مدير وكر القمار في الأزقة الخلفية”
‘قمار؟ ألم تحظر الطائفة ذلك. لكن عند التفكير للحظة فهو متوقع’