سجلات الذات المنسية - الفصل الأول: طقوس البلوغ
قاطعت طرقات متتالية تأمل تشيان لينغ، فتح عينيه بتكاسل ثم أنصت للصوت الطفولي ينسل من خلف الباب، ممتزجًا بالاحترام والحذر.
“أيها الأخ الأكبر، إن الشيخ تشيان يو قد أرسل في طلبك”
تصارعت الأفكار في رأسه وتلاطمت كأمواج البحر الهائج. لكن طرقات جديدة قد هدأت أفكاره فقام من مكانه برزانة، وأوقف المصفوفة الدفاعية ليفتح الباب الخشبي.
يستحيل على صبي أن يوتره لهذه الدرجة؛ فهؤلاء الذين لم يخطوا إلى عالم الأقوياء ليسوا بشيء، ما يقلقه بحق هو الطقوس… تلك المهمة التي ما فتأت تؤرقه.
‘هوه، أتعبني الانتظار، وها قد حانت لحظة الاختبار’
لا مفر مما هو قادم، كونه تربى في كنف الطائفة فهذا قدره فلا نسبٌ ولا مكانة تشفعان له.
ارتسم الهدوء على وجهه ثم دفع الباب بخفة، هناك وقف الطارق شاب صغير لم يجاوز العاشرة، أعطاه وجهه الطفولي الناعم انطباعًا باللطف والملاحة، لم تفسد الشامتين الصغيرتين على طرف خده الأيسر ذاك الجو العام. وأضفى لباسه الاخضر الزاهي شعورا بالحيوية والأناقة.
حالما رأى الفتى تشيان لينغ ذو الابتسامة الهادئة قال بلهفة “مرحبا أيها الأخ الأكبر”
ثم تابع بتسرع كأنه يسابق الكلمات نفسها “شيخ قاعة المهام قد حدد مهمتك.”
لم يتوقع تشيان لينغ أن يقابل أخًا أصغر بهذه الحماسة المفرطة، ابتسم بهدوء أو حاول ذلك ورد بخفة تخالف باطنه “شكرا لك أيها الأخ الأصغر يمكنك المضي في طريقك”
همّ الشاب بالرحيل غير أنه لم يبتعد سوى خطوات قلال قبل أن يستدرك على ما فات ويقول ببعض التوتر “انتبه فأنت تعرف طباع الشيخ!”
أغلق باب مسكنه وحدق في الباب لبرهة يتأمل كلمات الأخ الأصغر ويمحصها لكن بلا جدوى.
تنهد بخفة “اوهه”.
ودون إطالة ومماطلة قادته قدماه إلى قاعة المهام. وقف برج مهيب بارتفاع يتجاوز المئة قدم وعرض يمتد على مدى البصر، دخل التلاميذ وخرجوا مشكلين تيارًا متدفقًا من البشر.
تنوعت ألوان أرديتهم بين الأخضر الفاتح والزمردي والأخضر القاني والأخضر المصفر، لكن الشيء الوحيد الذي يوحد هذه الجموع هو تلك النظرة العصبية المتوترة سواء من القادم أو من المغادر. خلقت هذه النظرات نوعًا من الجو المهيب والذي يوتر الشخص لا شعوريًا هو الآخر.
تجاوز الشخص تلو الآخر حتى دخل المبنى فظهر أمامه منطقة الاستقبال حيث يشرع التلاميذ بأخذ مهامهم. في الجهة المقابلة للمدخل نصبت منصات بارتفاع ثلاثة أقدام أو نحوها بلون أزرق صافي وسطحٍ خشن غير مصقول، تقدم التلاميذ الواحد تلو الآخر ووضعوا قطعة يشم صغيرة الحجم بهية المنظر على تلك المنصات.
لكن كل ذلك لم يعنيه في شيء، التفت إلى يمينه وتابع المسير حتى وصل للدرج الرخامي ذي اللون الحليبي، أخذ خطواته الأولى وكل خطوة زادت من ثقل الهموم التي على عاتقه.
تابع الصعود حتى وصل إلى الطابق الثاني، لقد أكله الفضول ليلقي نظرة على ما يحويه الطابق لكن هذا الطابق مخصص للشيوخ وعلية القوم. الهالة المتسربة من قاعة الطابق الثاني قد أصابته بقشعريرة لا تطاق لذا بعد إلقاء نظرة خاطفة على مدخل القاعة تابع الصعود إلى الطابق الثالث حيث توجد غرفة شيخ المسؤول عن قاعة المهام.
وقف أمام الباب متأملًا ومترددًا قليلًا
‘مهما كان فلن ترسلني العشيرة لحتفي’
‘على الأقل آمل ذلك’
طرق الباب بضربات خفيفة خجولة ثم سمع صوتًا قَدِم من خلف الباب “ظننت أنك لن تطرق الباب اليوم”
ليس بصعب على شيخ في قمة عالم بناء الأساس أن يشعر بوجود الأشخاص القريبين.
“ههه هاه” ضحك ضحكة مخزية كمن قبض عليه متلبسًا بجريمته، التوتر قد أنساه قوة الشيخ.
فتح الباب ودخل بخطى هادئة لكنها بعيدة كل البعد عن الاسترخاء، ما ظهر أمامه هو ذاك النموذج الخيالي للشيخ الخبير المتواري عن أنظار العامة. بلحية بيضاء طويلة تصل إلى صدره وعيون شبه مغلقة وابتسامة باهتة وبوجه حاد وبشرة بيضاء مشربة بحمرة، وما زاده هيبة ووقار هو تلك الندبة التي قسمت حاجبه الأيمن لقسمين.
جلس الشيخ على كرسي خشبي بلون أخضر آسر مع طاولة خشبية بزخرفات نباتية متعددة، فوقها أوراق مبعثرة وقطع يشم تدرجت ألوانها بين القاني والفاقع!
زينت الغرفة بلوحات فنية ذات أساليب غريبة، لكن الغريب أن الغرفة كانت مضيئة دون نافذة أو مصدر إنارة ظاهر بل يبدو أن الضوء يصدر من كل أجزاء الغرفة.
مع أنها كانت خطوات قليلة إلا أنه أحس بثقل المسير، وقف أمام طاولة الشيخ والعرق يتصبب من جبينه وقرقرة معدته المتوترة زادت الوضع سوءًا!
طمأنه الشيخ بصوت هادئ كهمس في أذنيه “لا تقلق! فهي مهمة تحقيق لا أكثر. حتى إن حصل وتورطت في مشكلة ما فإن العشيرة لن تتخلى عن أحد أبنائها”
تردد صدى كلماته في ذهن تشيان لينغ، فهذه الكلمات قد حملت في طياتها أكثر مما يظهر.
ظهرت قطعة من اليشم بحجم كف اليد بلون أخضر يميل للزرقة قليلا، لم يتسنى له فحص تفاصيلها لأنها قد ضربت جبهته. انسلت المعلومات المخزنة إلى عقله رويدًا رويدًا وجزءًا جزءًا ولم تمر سوى لحظات حتى أصبح لديه فكرة عن المهمة التي قد أعدتها العشيرة.
{لقد حدثت العديد من جرائم القتل المتنوعة في أحياء الفقراء والعامل المشترك بينها هو قطع أذن الضحايا وتمزيق أعضائهم الداخلية، يشتبه في أنه وحش قد تسلل عبر الحاجز. مع التنويه على أن القاتل قد يكون بشرًا!
مهمتك تعقب الجاني لمعرفة هويته، قتاله ليس بمطلب}
ثم ظهرت الصورة البشعة لضحايا القتل صورة تلو الأخرى في ذهنه، لقد كاد أن يتقيأ من هول المنظر. ليس وكأنه لم يرى جثة من قبل، فقد شاهد وفحص الجثث في محاضرات الشيوخ لكنها لم تكن بهذا المنظر المروع! والمرور بتجربة ظهور هذه الصور في ذهنه مباشرة قد زادت من قوة المشهد ورعبه.
بدأت ركبتاه في الانثناء والارتعاش حتى أوشك على السقوط، قاوم غثيانه ورغبته في الهروب لعلمه أن مصيره سيحسم ولن يعود له تحكم فيه.
أخذ نفسًا تلو الآخر وشهق بصوت عال، استمرت هذه المعاناة لدقائق قليلة رافقتها رعشات الأطراف. لكنه صر على أسنانه حتى سمعت صوت صريرها، لم يبكي أو يصرخ من الهلع.
انتظره الشيخ حتى أنهى تشنجاته وتخبطاته ولم يظهر أي تعبير أو استغراب كأنه اعتاد على هكذا أمر. طارت قطعة قماش ناحية تشيان لينغ والذي عرف بالبداهة معنى ذلك. مسح عرقه ونظف وجهه ثم حاول أن يبتسم للشيخ لكن مظهره حيث طرف من الفم مرفوع والآخر بالكاد مشدود جعله أقرب لمهرج.
تكلم الشيخ بصوت يملؤه الهيبة والوقار “الآن بعدما رأيت التفاصيل أستقبل المهمة؟ إن لم تقبلها فأنت تعلم بما سيحصل”
لم يستغرق الأمر ثانية حتى فقد بدا وكأنه سيقاطع الشيخ قائلًا “أقبل المهمة”
مسح الشيخ على لحيته وابتسامته قد بانت للأعين، ثم بدأ يبحث عن شيء بين قطع اليشم المكومة على طاولته.
أمسك بقطعة يشم غريبة بلونين أبيض وأسود كأنه يمثل قطبين متضادين في الظاهر. ثم شرح لتشيان لينغ الغرض من هذا اليشم “هذا يشم مميز بقوة ملزمة ستمنع الشخص من رفع قوته قيد أنملة إن خالفها فاحذر”
فوجئ تشيان لينغ بسماع هذا، لكن الشيخ رمقه بنظرات تحذير وتخويف ثم أردف “اكتب اسمك على اليشم وسوف يحفظ هالة روحك”
‘لم أتوقع رؤية شيء كهذا خارج الكتب’
‘هييه يكاد يستحيل الهروب من تقييدها ما لم أبدل روحي’
أمسك اليشم وحالما فعل ذلك ظهرت في ذهنه جمل عابرة تخبره أن يلتزم بتعاليم الأجداد وأن لا يتنمر على الفانين وأن لا يلتفت لإغراءات الغرباء المعتدين. وقع اسمه دون أي تردد فلم يكن له الاعتراض ولا الحق في الرفض.
‘سؤال الشيخ؟ إنه مجرد إجراء شكلي.’
بمجرد أن وقع العقد أحس بوخزة وقشعريرة تسري في أنحاء جسده، لم يعرف أهو تأثير العقد أم أنه خوف من المجهول الذي يرافق هذه المهمة.
همّ تشيان لينغ بالرحيل لكن الشيخ تنحنح قليلا ولفت انتباهه “بما أنك ابن صديقي العزيز دعني أشرح لك بعض الأمور المهمة حول العقد”
“أشكرك أيها الشيخ على عرضك ولكني أحتاج للراحة”
لم يكد ينهي كلامه حتى أحس بضغط لا يتصور يحاول كسر جسمه وتحطيمه لأشلاء، بدأت أذناه بالصفير وأحس بضغط يكاد يخرج عينيه من محجرهما، انحنى تشيان لينغ بسرعة وأردف قائلًا “أيها… الشـ….يخ إنه… لشرف…لي أن …أسمع بتاريخ هذه… القطعة النادرة” مع كل كلمة يقولها خف الضغط الواقع على جسمه شيئًا فشيئًا.
مسح لحيته وقال “نعم!” ثم بعد توقف لهنيهة أردف “كما توقعت فشباب هذه الأيام فضوليون للغاية. لذا لا مانع عندي من تثقيف الجيل الأصغر سنًا”
لم يعرف تشيان لينغ سبب رغبة الشيخ في إخباره بهكذا تفاصيل. فلم يقل أي من اشقائه الأكبر سنًا شيئًا عن الموضوع.
‘والدي بالكاد يلقي السلام عندما يقابل الشيخ، فلمَ هذا التودد والقُرب؟’ جالت هذه الخواطر في عقله.
‘وما نوع مهام الاستطلاع التي تحتاج لمعرفة سر كهذا؟’ الحيرة قد بدأت في نهشه من الداخل.
رد بعين نصف مغمضة وابتسامة لعوبة تتسلل إلى وجهه “هذا الأمر يتعلق بالسلف الأكبر، أتعلم لمَ أعاد تشكيل العشيرة في هيئة طائفة؟”
أجاب باقتضاب خوفًا من رد فعل الشيخ “نعم”
رد الشيخ بخفة “أكمل”
أكمل بعد أن حصل على الأذن و دبت الشجاعة فيه “لقد أخبرنا الشيوخ فيما سبق من الدروس أن السلف الأكبر قد جاب العالم وخاضه طولًا بعرض وخرج بنتيجة مغزاها أن العشيرة لن تصمد مع تقادم الزمن”
تجهم الشيخ عندما سمع هذه العبارات الرنانة وأغمض عينيه لبرهة ثم قال بصوت رخيم “أنسى الأمر. عليك أن تكون حذرًا من الغرباء في مهمتك”
لم يفهم تشيان لينغ سبب التغير المفاجئ في موقف الشيخ، لمَ كان متحمسًا لإخباره بذاك السر المهم ثم خمد حماسه، أهي مزحة أم اختبار؟
أمسك الشيخ الأوراق التي أمامه وبدأ القراءة بانهماك ثم بدا وكأنه يتذكر التلميذ الماثل أمامه فقال”الآن انصرف إلى شأنك”
حالما سمع تشيان لينغ هذه العبارة أحس بشعور من الراحة المؤقتة وظهرت ابتسامة صغيرة على وجهه ثم همّ بالرحيل دون إطالة.
لكن لفت انتباهه تمتمة الشيخ بصوت يكاد لا يسمع تقريبًا “بهذا أكون قد أوفيت بديني”
‘أي دين ذاك؟ ولمَ تمتم بذلك؟’ تفجرت هذه الاسئلة في رأسه وأحدثت عاصفة من الاحتمالات اللامتناهية لكن كل ذلك لم يوقف قدميه التي فرت من وكر الوحوش هذا.